فصل: ذكر وقعة الكمين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية (نسخة منقحة)



.ذكر وقعة الكمين:

وفي الثاني والعشرين من شوال رأى السلطان أن يضع للعدو كميناً وقوي عزمه على ذلك فأخرج جمعاً من كماة العسكر وشجعانه وأبطاله وفرسانه وانتخبهم من خلق كثير وأمرهم أن يسيروا في الليل ويكمنوا في سفح تل هو شمالي عكا يعيد من عسكر العدو عنده كانت منزلة الملك العادل حين وقعت الوقعة المنسوبة إليه وأن يظهر منهم للعدو نفر يسير وأن يقصدوه في خيامه ويحركوه حتى إذا خرج انهزموا بين يديه نحو المسلمين ففعلوا ذلك وساروا حتى أتوا التل المذكور ليلاً فكمنوا فيه. ولما تجلى نهار الثالث والعشرين خرج منهم يسير على جياد من الخيل وساروا حتى أتوا مخيم العدو ورموهم بالنشاب وحركوا حميتهم بالضرب المتواتر فانتخى لهم مقدار مائتي فارس وخرجوا إليهم شاكي السلاح على خيل جياد بعدة تامة وأسلحة كاملة وقصدوهم وليس معهم أحد راجل وداخلهم الطمع فيهم لقلة عدتهم فانهزموا بين أيديهم وهم يقاتلون ويقتلوا حتى أتوا الكمين فثارت عند وصولهم الأبطال وصاحوا صيحة الرجل الواحد وهجموا عليه هجمة الأسود على فرائسها فثبتوا وصبروا وقاتلوا قتالاً شديداً ثم ولوا منهزمين فتمكن أولياء الله منهم وأوقعوا فيهم ضرباً بالسيف حتى أفنوا منهم جمعاً عظيماً واستسلم الباقون للأسر فأسروهم وأخذوا خيلهم وعددهم وجاء البشير إلى العسكر الإسلامي فارتفعت الأصوات بالتهليل وركب السلطان يتلقى المجاهدين وسار وكنت في خدمته حتى أتى تل كيسان فلقينا أوائل القوم فوقف هناك يتلقى العائدين من المجاهدين والناس يتبركون بهم ويشكونهم على حسن صنيعهم وهو يعتر الأسرى ويتصفح أحوالهم. وكان ممن أسر مقدم عسكر الإفرنسيس فإنه كان قد أنفذ نجدة قبل وصوله وأسر خازن الملك أيضاً وعاد السلطان بعد تكامل الجماعة إلى مخيمه فرحاً مسروراً وأحضر الأسرى عنده وأمر منادياً ينادي من أسر أسيراً فليحضر الناس أسراهم وكنت حاضراً ذلك المجلس. ولقد أكرم المقدمين منهم وخلع عليهم وعلى مقدم عسكر الإفرنسيس فروة خاصة وأمر لكل واحد من الباقين بفروة جرخية فإن البرد كان شديداً وكان قد أخذ منهم وأحضر لهم طعاماً فأكلوه وأمر لهم بخيمة تضرب قريباً من خيمته وكان يكارمهم في كل وقت ويحضر المقدم على الخوان في بعض الأوقات وأمن بتنفيذهم وحملهم إلى دمشق، حملوا مكرمين وأذن لهم في أن يراسلوا صاحبهم وأن يحضر لهم من عسكرهم ما يحتاجون إليه من الثياب وغيرها ففعلوا ذلك وساروا إلى دمشق.

.ذكر عود العسكر عن الجهاد:

ولما هجم الشتاء وهاج البحر وأمن العدو أن يضرب مصاف وطلب البلد وحصاره من شدة الأمطار وتوترها أذن السلطان للعساكر في العود إلى بلادهم ليأخذوا نصيباً من الراحة وتجم خيولهم إلى وقت العمل. وكان أول من سار عماد الدين صاحب سنجار لما كان عنده من القلق في طلب الدستور. وكان مسيره خامس عشر شوال وسار عقيبه في ذلك اليوم ابن أخيه سنجر شاه صاحب الجزيرة هذا بعد أن أفيض عليه من التشريف والإنعام والتحف ما لم ينعم به على غيرهما. وسار علاء الدين ابن صاحب الموصل في مستهل ذي القعدة مشرفاً مكرماً معه التحف والطرائف وتأخر الملك المظفر إلى أن دخلت سنة سبع وثمانين وتأخر أيضاً الملك الظاهر وسار تاسع المحرم سنة سبع وثمانين وسار الملك المظفر في ثالث صفر ولم يبق عند السلطان إلا نفر يسير من الأمراء والحلقة الخاصة. وفي أثناء ذي القعدة سنة ست وثمانين وفد عليه زلفتدار فالتقاه وأكرم مثواه ووضع له طعاماً يوم قدومه وباسطه مباسطة عظيمة. وكانت حاجته أن يوقع له بإعادة أملاك كانت في يده ثم انتزعت من أعمال نصيبين والخابور فوقع بإعادتها إلى يده وإجراء الأمر فيها بعد ذلك على وفق الشريعة المطهرة وخلع عليه وشرفه وسار فرحاً مسروراً شاكراً لأياديه.

.ذكر ارتحال السلطان لإدخال البدل إلى البلد:

ولما هاج البحر وأمنت غائلة مراكب العدو ورفع ما كان له من الشواني في البحر إلى البر اشتغل السلطان في إدخال البدل إلى عكا وحمل البر والذخائر والنفقات والعدو منها وإخراج من كان بها من الأمراء لعظم شكايتهم من طول المقام بها ومعاناة التعب والسهر وملازمة القتال ليلاً ونهاراً وكان مقدم البلد من البدل الداخل الأمير سيف الدين علي المشطوب دخل سادس عشر المحرم من شهور سنة سبع وثمانين وفي ذلك اليوم خرج المقدم الذي كان بها وهو الأمير حسام الدين أبو الهيجاء وأصحابه ومن كان بها من الأمراء وأعيان الخلق وتقدم إلى كل من دخل أن يصحب ميرة السنة وانتقل الملك العادل بعسكره إلى حيفا على شاطئ النهر وهو الموضع الذي تحمل منه المراكب فتدخل إلى البلد وإذا خرجت تخرج إليه فأقام يحث الناس على الدخول ويحرس المير والذخائر لئلا يتطرق إليها العدو من يعترضها وكان مما دخل إليها سبع بطس مملوءة ميرة وذخائر ونفقات كانت وصلت من مصر محملة وتقدم السلطان بتعبيتها من مدة مديدة وكان دخولها ثاني ذي الحجة من السنة الخالية فانكسر منها مركب على الصخر الذي هو قريب من الميناء فانقلب كل من في البلد من المقاتلة ليلقى البطس. ولما علم العدو ذلك أخذوا غرتهم وزحفوا إلى البلد في جانب البر زحفة عظيمة وقاربوا الأسوار وصعدوا في سلم واحد فاندق بهم السلم كما شاء الله تعالى وتداركهم أهل البلد فقتلوا منهم خلقاً عظيماً وعادوا خائبين خاسرين، وأما البطس فإن البحر هاج هياجاً عظيماً وضرب بعضها على الصخر فهلكت وهلك جميع من كان فيها، قيل كان عددهم ستين نفراً وكان فيها ميرة عظيمة لو سلمت كفت البلد سنة كاملة وذلك بتقدير العزيز العليم ودخل على المسلمين بذلك وهن عظيم وأحرج السلطان بذلك حرجاً عظيماً فاستخلف ذلك في سبيل الله تعالى وما عند الله خير وأبقى، وكان ذلك أول علامات أخذ البلد والظفر به، ولما كانت ليلة السبت سابع ذي الحجة من السنة الحالية قضى الله وقدر أن وقع من السور قطعة عظيمة ونقلها على الباشورة فهدمت أيضاً منها قطعة عظيمة وهي العلامة الثانية وقد أخذ العدو الطمع وهاج الزحف هياجاً عظيماً وجاءوا إلى البلد كقطع الليل المدلهم من كل جانب وثارت همم الناس في البلد وقاتلوا العدو قتالاً سديداً حتى ضرسوا وأيسوا من أن ينالوا خيراً فوقفوا على سد موضع القطعة الواقعة وجمعوا من في البلد من البنائين والصناع ووضعوهم في ذلك الموضع وحموهم بالنشاب والمناجيق فما مرت إلا ليال يسيرة حتى انتظمت وعاد بناؤها أحسن مما كان أقوى وأتقن.

.ذكر الظفر بمراكب العدو:

وكان قد استأمن من الفرنج خلق عظيم أخرجهم الجوع إلينا وقالوا للسلطان نحن نخوض البحر في براكيس وبطس إلى العدو ويكون الكسب بيننا وبين المسلمين فأذن لهم في ذلك وأعطاهم بركوساً وهو المركب الصغير فركبوا فيه وظفروا بمراكب للتجار من العدو وهي قاصدة إلى عسكرهم وبضائعهم معظمها فضة مصوغة وغير مصوغة فوقع عليها البركوس وقابلوهم حتى أخذوهم واكتسبوا منهم مالاً عظيماً وأسروهم وأحضروهم بين يدي السلطان وذلك في ثالث عشر ذي الحجة من السنة المذكورة ولقد كنت حاضراً ذلك المجلس وكان من جملة ما أحضروه مائدة فضة وعليها مكبة مخرمة من فضة فأعطاهم السلطان الجميع ولم يأخذ منهم شيئاً وفرح المسلمون بنصر الله عليهم بأيديهم.

.ذكر موت ابن ملك الألمان:

وذلك أن العدو لما دخل الشتاء عليهم وتواترت الأنداء واختلفت الأهواء وخم المرج وخماً عظيماً وقع معه موتاً عظيماً وانضم إلى ذلك الغلاء الزائد وانسد عليهم البحر الذي كان يجيئهم منه الميرة من كل جانب وكان يموت منهم كل يوم المائة والمائتان على ما قيل وقيل أكثر من ذلك، ومرض ابن ملك الألمان مرضاً عظيماً وعرض له مع ذلك مرض الجوف فهلك به في الثاني والعشرين من ذي الحجة سنة ست وثمانين وحزن الإفرنج عليه حزناً عظيماً وأشعلت له نيران هائلة بحيث لم يبق له خيمة إلا وأشعلت فيها الناران والثلاثة بحيث بقي عسكرهم كله نار وفرح المسلمون بذلك بمثل ما حزن الكفار بفقده وهلك منهم كبير يقال له الكندبالياط ومرض الكندهري وأشرف على الهلاك، وفي الرابع والعشرين منه أخذ منهم بركوسان فيها نيف وخمسون نفراً وفي الخامس والعشرين منه أخذ منهم أيضاً بركوس وجميع ما فيه وكان من جملة ما فيه ملوطة مكللة باللؤلؤ وهي من تفاصيل الملك وقيل كلن في البركوس ابن أخيه وأخذ أيضاً.

.ذكر غارة أسد الدين:

وهذا أسد الدين هو شيركوه بن ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه الكبير وهو صاحب حمص. وكان من حديثه أن السلطان كان قد رسم له أن يأخذ حذره من الإفرنج بطرابلس ويأخذ نفسه بحراسة المسلمين والفلاحين في تلك الناحية وأنه قيل له إن إفرنج طرابلس قد أخرجوا جشارهم وخيلهم إلى مرج هناك وأبقارهم ودوابهم وأنه قد قرر مع عسكره قصدهم فخرج على غرة منهم وهجم على جشارهم فأخذ منهم الخيل أربعمائة رأس ومائة من البقر فهلك من الخيل أربعون وسلم الباقي وعاد إلى البلد ولم يفقد من أصحابه أحد ووصل الكتاب بذلك في رابع صفر من سنة سبع وثمانين.

.ذكر وقائع عدة في هذه السنة:

وفي ثالث ربيع الأول كان اليزك للحقة السلطانية وخرج من العدو إليهم خلق عظيم وجرى بينهم وقعة شنيعة وقتل فيها من العدو جماعة وقتل منهم رجل كبير على ما قيل ولم يفقد من المسلمين إلا خادم للسلطان يسمى قراقوش وكان شجاعاً عظيماً له وقعات عظيمة كثيرة استشهد في ذلك اليوم، وفي تاسع الشهر بلغ السلطان أن العدو يخرج منه طائفة يتفسحون لبعدنا عنهم فاقتضى رأيه أن أنفذ أخاه الملك العادل وفي خدمته خلق عظيم من العساكر الإسلامية وأمره أن يكمن للعدو وراء التل الذي كانت فيه الواقعة المعروفة به فسار هو وجمع كان من كبراء أهله وأصحابه فكمن وراء تل العاضية وكان ممن كان معه من كبار أهله الملك المظفر تقي الدين وابنه ناصر الدين محمد والملك الأفضل ولده ومعه صغار أولاد الملك الأشرف محمد والملك المعظم طورانشاه والملك الصالح إسماعيل وكان من المعممين الفاضل والديون وكنت في الصحبة في ذلك اليوم وركب جماعة من الشجعان على الخيول الجياد وناوشوا العدو فلم يخرج في ذلك اليوم وكان قد وشي إليهم بحلية الأمراء إلا أن ذلك اليوم لم ينفك إلا بنوع نصر فإنه وصل في أثنائه خمسة وأربعون نفراً من الإفرنج كانوا قد أخذوا في بيروت وسيروا إلى السلطان ووصلوا في ذلك اليوم إلى ذلك المكان. ولقد شاهدت منه رقة قلب لم ير أعظم منها وذلك أنه كان فيهم شيخ كبير طاعن في السن لم يبق في فمه ضرس ولم تبق له قوة إلا مقدار تحرك لا غير فقال للترجمال قل له ما الذي حملك على المجيء وأنت في هذا السن وكم من ههنا إلى بلادك فقال بلادي بيني وبينها عدة أشهر. وأما مجيئي فإنما كان للحج إلى القمامة، فرقّ له السلطان ومنّ عليه وأطلقه وأعاده راكباً على فرس إلى عسكر العدو. ولقد طلب أولاده الصغار أن يأذن لهم في قتل أسير فلم يفعل فسألته عن سبب المنع وكنت حاجبهم بما طلبوه فقال لئلا يعتادوا من الصغر على سفك الدماء ويهون عليهم ذلك وهم الآن لا يفرقون بين المسلم والكافر. ولما أيس من خروج العدو عاد المخيم في عشية ذلك اليوم.

.ذكر وصول العساكر الإسلامية والملك افرنسيس:

ومن ذلك الوقت انفتح الباب وطال الزمان وجاء أوان عود العساكر إلى الجهاد من الطائفتين فكان أول من قدم علم الدين سليمان بن جندر من أمراء الملك الظاهر وكان شيخاً كبيراً مذكوراً له وقائع ذا رأي حسن والسلطان يحترمه ويكرمه وله قدم صحبة، ثم قدم بعده مجد الدين بن عز الدين فخرشاه وهو صاحب بعلبك وتتابعت بعد ذلك العساكر الإسلامية من كل صوب، وأما عسكر العدو فإنهم كانوا يتواعدون اليزك ومن يقاربهم بقدوم الملك الفرنسيس وكان معظماً عندهم مقدماً محترماً من كبار ملوكهم تنقاد إليه العساكر بأسرها بحيث إذا حضر حكم على الجميع ولم يزالوا يتواعدون بقدومه حتى قدم في ست بطس تحمله وميرته وما يحتاج إليه من الخيل وخواص أصحابه وكان قدومه يوم السبت الثالث والعشرين من ربيع الأول من هذه السنة.